القصة في القرآن الكريم .. الخصائص والدلالات
javanet :: المنتدى الاسلامي :: قسم المدائح :: إسلاميات
صفحة 1 من اصل 1
القصة في القرآن الكريم .. الخصائص والدلالات
القصة في القرآن الكريم .. الخصائص والدلالات
تتميز القصة في القرآن الكريم بأنها تمتزج بموضوعات السورة التي ترد فيها امتزاجاً عضوياً لا مجال فيها للفصل بينها وبين غيرها من موضوعات السورة، بحيث لو حذفنا القصة من موقعها الوارد في السورة لاختل المعنى، لأن القصة تسهم في بيان مضمون النص وإيضاحه للقارئ، فلو حذفنا على سبيل المثال، قصة الغراب التي وردت أثناء الحديث عن قصة ابني آدم (قابيل وهابيل) لما استقام المعنى، لأن الغرض من ذكر الغرابين كان لحكمة إلهية لبيان حكمة دفن الموتى.
ولا ترد القصة في القرآن الكريم إلا إذا تطلبها المقام واقتضت البلاغة ذكرها، ويذكر الجزء الذي له علاقة بموضوع السورة، ولا تذكر القصة كاملة، ولهذا خلت سورتا "الأعراف" و "هود" من الحديث عن قصة إبراهيم - عليه السلام - على الرغم من أن السورتين تحدثتا عن قصص الأنبياء.
وقد يكون الدافع من ذكر القصة في السورة هو بيان قدرة الله - سبحانه وتعالى - كما في قصة أهل الكهف، وقصة إحياء الموتى كما في سورة البقرة، فاستدعى المقام التذكير بقدرة الله، وقد جاء الحديث عن قدرة الله - سبحانه وتعالى - ضمن السياق والجو العام الذي يتناسب مع موضوع السورة.
وإذا ما تأملنا مقدمة القصة القرآنية فإننا نجد أن الخطاب في الغالب يكون موجهاً للنبي - عليه الصلاة والسلام - دلالة على أن هذه القصة تساق لأجله ولأجل دعوته إما لتثبيته ولتأكيد دعوته بسوق معجزة جديدة من خلال هذه القصة، إما لردع معانديه وتخويفهم، كما في قوله - تعالى -: نتلو عليك من نبأ موسى" وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " القصص: 3} ومن خلاله - عليه الصلاة والسلام - كان الحديث يوجه لعامة المؤمنين.
وتمتاز القصة القرآنية بالبداية المشوقة كما في سورة الفيل: (الآيات: 1-5) التي ابتدأت بسؤال مثير للاهتمام: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. فالعرب يعرفون أن لعنة الله قد حلت بأصحاب الفيل ولكنهم بحاجة إلى مزيد من التفاصيل، ثم ذكرت نهاية القصة في بدايتها ألم يجعل كيدهم في تضليل، وما زال الاستفهام قائماً. وكيف كان ذلك؟ فجاءت الإجابة في ثلاث آيات قصيرات مركزات: "وأرسل عليهم طيرا أبابيل 3 ترميهم بحجارة من سجيل 4 فجعلهم كعصف مأكول " 5.. وهكذا وصفت واقعة الفيل أبلغ وصف، واختتمت بنهاية محكمة أشد الإحكام. وروعة هذه القصة القرآنية ليست في جِدَّةِ موضوعها فهي قصة معروفة عند العرب متداولة بينهم، ولكن روعتها تكمن في القالب الجديد التي عرضت من خلالها وفي أسلوبها الموجز البليغ، فهي تتحدث عن واقعة عظيمة قدمت مختصرة في خمس آيات.
ونجد كذلك التنويع في المقدمات، فسورة الكهف ابتدأت بذكر ملخص كامل لوقائعها، ولكن هل أشبع هذا الملخص الرغبة في معرفة تفاصيل هذه القصة؟ والإجابة: كلا،.. بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " الكهف: 13}، فالقارئ والمستمع يتلهف لمعرفة سبب ذهاب الفتية إلى الكهف وما حدث لهم بعد ذلك.
وابتدأت سورة يوسف بالتشويق الذي بلغ أعلى درجات الإثارة، ففي مستهل القصة وصف الله - جلت قدرته - القصص القرآني بأحسن القصص الذي يخرج الناس من غفلتهم، ثم انتقلت للحديث عن الرؤيا التي رآها يوسف - عليه السلام - وهذا وحده كفيل بإثارة اهتمام القارئ والمستمع وشوقه لمعرفة تفسير تلك الرؤيا، ثم تحدثنا الآيات عن تحذير يعقوب - عليه السلام - لابنه من رواية تلك الرؤيا لإخوته. وبعد هذا الاستهلال الرائع للقصة تعود بنا الآيات إلى الماضي لتحدثنا عن تآمر إخوة يوسف عليه، ثم تتسلسل الآيات في رواية قصته كاملة منذ طفولته.
وهذا ينقلنا بدوره إلى الحديث عن المفاجآت في القصة القرآنية التي تتميز بتنوع الأساليب التي كانت تقدم من خلالها، فقد يكتم القرآن سر المفاجأة حتى تتكشف في نهاية القصة، وفي هذا تشويق للقارئ حتى يتم القصة ويعرف نهايتها كما في قصة موسى - عليه السلام - مع العبد الصالح. بينما في قصة ملكة سبأ كان السر معروفاً للقارئ في كيفية مجيء العرش إلى سليمان - عليه السلام - بينما هي لم تكن تعرف، والدليل على ذلك قولها عندما رأته (كأنه هو): لأنها لمست تشابهاً كبيراً بينه وبين قصرها، فسرد هذه الأحداث بهذه الطريقة فيه إثارة لاهتمام القارئ.
ويمتاز القرآن الكريم بالدقة في اختيار الكلمات التي تحمل دلالات عميقة، وتعبر عن أحداث كثيرة بأقل عدد من الكلمات كما في كلمة (تذودان) الواردة في قوله - تعالى -: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير" القصص: 23} فهذه الكلمة بينت أن الفتاتين كانتا تحبسان أغنامهما وتمنعانها من الاختلاط بأغنام الآخرين، حتى لا يدعي أحدهم أنها له، وهذا يعني أنهما كانتا تنتظران - لضعفهما - حتى يخف الزحام فتسقيان أغنامهما، وأن أغنامهما كانت تريد الذهاب إلى مورد الماء مع سائر الماشية فكانتا تمنعانها وهذه الكلمة ساهمت في تخيلنا للموقف وما فيه من حركة، والدوافع النفسية التي تدفعهما للتصرف بهذه الطريقة، كل ذلك لخصه القرآن الكريم في كلمة واحدة هي تذودان ولاشك أن هذه الكلمة تكشف عن نفسية هؤلاء القوم الذين كان يسيطر عليهم حب الذات، والحرص على مصالحهم الخاصة بهم دون الالتفات إلى حاجة الآخرين للماء، وعدم مراعاتهم لضعف هاتين الفتاتين وكبر سن والدهما، ولذلك لفت هذا المشهد انتباه موسى - عليه السلام - وأثار تعجبه، ولما عرف القصة سقى لهما، وهذا يدل على حسن خلقه.
ونجد الأمر نفسه في الآيات (24-32) من سورة عبس " فلينظر الإنسان إلى طعامه 24 أنا صببنا الماء صبا 25 ثم شققنا الأرض شقا 26 فأنبتنا فيها حبا 27 وعنبا وقضبا 28 وزيتونا ونخلا 29 وحدائق غلبا 30 وفاكهة وأبا 31 متاعا لكم ولأنعامكم 32 عبس: 24 - 32} حيث جمعت هذه الآيات في سرد رائع كل ما يمكن أن ينبت على وجه الأرض من مزروعات تفيد الإنسان، والدواب التي سخرها الله - سبحانه وتعالى - للإنسان، فكلمة (الحب) تشمل القمح والشعير والذرة، أما القضب فهو كل ما يقضب من النبات كالقثاء وسائر البقول، والأب كل ما تنبته الأرض من عشب سواء ما يأكله الناس كالحصيد أو ما تأكله الدواب. ودلالة العنب والزيتون والنخيل واضحة ومفهومة، أما الحدائق بما فيها من أشجار غليظة وغير غليظة، فالآيات السابقة تبين لنا كل ما يحتاجه الإنسان من طعام حياته وحياة دوابه، وكذلك الفاكهة على مختلف أنواعها وكذلك الراحة النفسية والتمتع بالجمال.
ومما يثبت أن القرآن الكريم يميل إلى اختيار الألفاظ القليلة ذات المعاني والدلالات الكثيرة، أننا نجد قصة قصيرة بليغة مركزة على قوم عاد في الآيات (18-20) من سورة القمر "كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر 18 إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر 19 تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر القمر: 18 - 20}، فهذه الآيات القصيرة تحدثنا عن تكذيب قوم عاد، والعذاب الذي حل بهم نتيجة لتكذيبهم والذي لم يبق على أحد جزاء وفاقا. وقد نستغرب احتجاج الملائكة بأن نسل آدم سيفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء وهذا الأمر ما زال في علم الغيب في ذلك الوقت عندما أخبرهم الله - سبحانه وتعالى - أنه سيجعل آدم خليفة له في الأرض، كما اتضح ذلك من قوله - تعالى -: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون البقرة: 30} ولعل في ذكرهم لسفك الدماء ما يتصل بصلة وشيجة بالدم المسفوك في قصة البقرة، ولذلك ذكرت هذه الجزئية من قصة آدم في هذه السورة فقط. وهذا ما تحقق بالفعل عندما قتل قابيل أخاه كما حدثتنا عن ذلك سورة المائدة.
وقد ورد اسم الفاعل (جاعل) بتنوين الضم في الآية السابقة ليدل على الاستقبال غير المنقطع مما يوحي بأن الذي سيجعله خليفة ليس فرداً وكفى (آدم) فقط وإنما هو ونسله لذلك لم يقل: (سأخلق) وإنما قال: (خالق) ومما يؤكد هذا التفسير أنه لم يقل: (خالق آدم) بل: (خالق بشراً) في قوله - تعالى -: " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون " الحجر: 28}. كذلك نلاحظ تنكير كلمة: (بشر) لتشمل كل كائن وليس كائناً واحداً محدداً، وعندما جعل الله - سبحانه وتعالى - خليفة في الأرض أيضاً لم يقل إني: (جاعل آدم خليفة) وإنما قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) في الآية من سورة البقرة الآنفة الذكر.
ويمتاز القصص القرآني بتنوع الصِّيَغ التي كان يقدم من خلالها الإنذار للأقوام التي تستحق العذاب، بعد استنفاد وسائل الإصلاح كلها، وقد حدثتنا سورة هود عن صيغ الإنذار التي وردت على لسان نوح وهود ولوط وصالح وشعيب، - عليهم السلام -، وعند قراءتنا لصيغ الإنذار نلاحظ المضمون نفسه ولكن الشكل الفني الذي قدم من خلاله كان يختلف باختلاف القوم، بحيث لا يدع مجالاً للشك بأن القرآن الكريم كلام الله، - سبحانه وتعالى -، ولهذا كان الإعجاز البلاغي هو مناط التحدي كما يتضح لنا كذلك أن الله - سبحانه وتعالى - ينصر أنبياءه والمؤمنين معهم وينجيهم، وينزل عقابه بمستحقيه.
وللإنذار أهمية بالغة في القصة القرآنية لأنه مرتبط بعنصر "العقدة" لهذا كان الإنذار الأخير في كل قصة قرآنية يشير إلى "الذروة" في تأزم الأحداث، والوصول إلى الذروة يعني قرب حدوث "الحل" الذي كان يأتي في القصص القرآني من خلال معجزة إلهية ترمي إلى إنزال الهلاك التام بالقوم المفسدين. ولهذا كان المشهد الأخير من كل قصة قرآنية يتميز بإنزال كارثة بالمكذبين الذين كانوا يستحقون العقوبة مثل: الطوفان أو الزلزال أو العاصفة المدمرة أو الصيحة، لإظهار أن القوة لله جميعاً، وتحذر مشركي مكة من ملاقاة المصير نفسه، مع الحرص على ربط طرق الإهلاك مع نوعية الذنب المرتكب من قبل المكذبين بالدين بقصد الاعتبار. وينتهي هذا المشهد بانتصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - والفئة المؤمنة من قومه، وفي ذلك رفع للروح المعنوية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وللدعاة من بعدهم.
ومن أوجه الاختلاف بين القصة الدينية والقصة الفنية، أن القصة القرآنية تشيع فيها التعليقات التي تلخص مغزى القصة، التي تسبق سرد أحداث القصة، أو تلحق السرد، أو تأتي خلاله لتفسر أسباب تلك الأحداث بما يبررها حتى يكون لها وقعها في النفوس بما يستخدم في التعقيب عليها من أساليب التذكير والوعظ والزجر، ومن الأمثلة على ذلك طريقة عرض قصة أهل الكهف إذ تلتقي بملخصها في ثلاث آيات ثم يأتي التفصيل. فالقصة القرآنية تحرص على إبراز المغزى في حين لا يجوز ذلك في القصة الفنية، والمحلل الأسلوبي لا يحتاج إلى تبرير مثل هذا المنهج الذي يتناسب مع غايات القرآن الكريم الدينية، فالقصة القرآنية قصة إيمان وهدفها تربية العقيدة في الوجدان الإنساني، والقرآن الكريم جاء لكل العقول والاتجاهات، وبعض الناس قد لا يستطيع استنتاج العبرة من القصة، فكان لابد من إرشاده إلى الغرض الذي تجسده بأسلوب يغلب عليه التبسيط أحياناً لتوضيح العبرة ليفهمها كل إنسان. ولكن هذا لا يعني أن القصة القرآنية تأخذ بالتقرير والمباشرة وإنما هي تهتم بالتصوير والتجسيم والاستحضار والإيحاء، فسورة "يوسف" من أولها إلى آخرها لم تقل شيئاً عن وسامة يوسف - عليه السلام -، لكننا نرى الوسامة الأخاذة في أعين النسوة اللائي عندما رأينه، قطعن أيديهن لفرط الذهول من وسامته. فحقيقة جمال ووسامة يوسف قدمت لنا مجسمة تكاد تنطق في قوله - تعالى -: فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " يوسف: 31} والتضعيف في الفعل (قَطَّعن) أسهم في إيضاح الموقف وتصويره بحيث يمكننا تخيل مشهد النسوة وهن يقمن بتقطيع أيديهن، فتشبيه يوسف بالملك الكريم يعني أن جماله فاق الوصف.
وتلفت النظر أيضاً ظاهرة أساليب التوكيد التي أكثر إخوة يوسف - عليه السلام - من استخدامها، فهم كانوا يتبعون قولهم بعبارة من مثل: (وإنا لناصحون) ودلالة على ذلك أنهم كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم أن نواياهم ليست سليمة، وأنهم موضع شك فيحاولون إبعاد الشبهة عن أنفسهم بأساليب التوكيد. ومن أسطع الأمثلة على ذلك ما قاله، - سبحانه وتعالى -، على لسان إخوة يوسف: " قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون يوسف: 14} فهاهم يلجأون إلى اللام المواطئة للقسم (لئن)، واللام الواقعة في (لخاسرون) والجملة المعترضة (ونحن عصبة) ليزيلوا ما في نفس أبيهم من خوف على يوسف، ولا تبقى له عِلَّه يتشبث بها. ولبث مزيد من الاطمئنان في نفس أبيهم نلاحظ الضمير الدال على الجمع (نحن - إنا) وجمع المذكر السالم (خاسرون)، ودلالة كلمة (عصبة) لبيان قوتهم ومقدرتهم على حمايته، وكان لدى الوالد إحساس بأنهم يدبرون مكروهاً لأخيهم، لذلك عبر أمامهم عن مخاوفه، لكنهم طمأنوه، بينما نجد الحديث عن الصبر والدعوة إليه وبيان فضله، وبث الشكوى والحزن إلى الله على لسان يعقوب - عليه السلام -، الذي كان بأمس الحاجة إليه ليستطيع مواجهة الموقف الصعب الذي وجد نفسه فيه.
ـــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1-كاظم الظواهري، بدائع الإضمار القصصي في القرآن الكريم.
2- محمد كامل حسين المحامي، القرآن والقصة الحديثة.
تتميز القصة في القرآن الكريم بأنها تمتزج بموضوعات السورة التي ترد فيها امتزاجاً عضوياً لا مجال فيها للفصل بينها وبين غيرها من موضوعات السورة، بحيث لو حذفنا القصة من موقعها الوارد في السورة لاختل المعنى، لأن القصة تسهم في بيان مضمون النص وإيضاحه للقارئ، فلو حذفنا على سبيل المثال، قصة الغراب التي وردت أثناء الحديث عن قصة ابني آدم (قابيل وهابيل) لما استقام المعنى، لأن الغرض من ذكر الغرابين كان لحكمة إلهية لبيان حكمة دفن الموتى.
ولا ترد القصة في القرآن الكريم إلا إذا تطلبها المقام واقتضت البلاغة ذكرها، ويذكر الجزء الذي له علاقة بموضوع السورة، ولا تذكر القصة كاملة، ولهذا خلت سورتا "الأعراف" و "هود" من الحديث عن قصة إبراهيم - عليه السلام - على الرغم من أن السورتين تحدثتا عن قصص الأنبياء.
وقد يكون الدافع من ذكر القصة في السورة هو بيان قدرة الله - سبحانه وتعالى - كما في قصة أهل الكهف، وقصة إحياء الموتى كما في سورة البقرة، فاستدعى المقام التذكير بقدرة الله، وقد جاء الحديث عن قدرة الله - سبحانه وتعالى - ضمن السياق والجو العام الذي يتناسب مع موضوع السورة.
وإذا ما تأملنا مقدمة القصة القرآنية فإننا نجد أن الخطاب في الغالب يكون موجهاً للنبي - عليه الصلاة والسلام - دلالة على أن هذه القصة تساق لأجله ولأجل دعوته إما لتثبيته ولتأكيد دعوته بسوق معجزة جديدة من خلال هذه القصة، إما لردع معانديه وتخويفهم، كما في قوله - تعالى -: نتلو عليك من نبأ موسى" وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " القصص: 3} ومن خلاله - عليه الصلاة والسلام - كان الحديث يوجه لعامة المؤمنين.
وتمتاز القصة القرآنية بالبداية المشوقة كما في سورة الفيل: (الآيات: 1-5) التي ابتدأت بسؤال مثير للاهتمام: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. فالعرب يعرفون أن لعنة الله قد حلت بأصحاب الفيل ولكنهم بحاجة إلى مزيد من التفاصيل، ثم ذكرت نهاية القصة في بدايتها ألم يجعل كيدهم في تضليل، وما زال الاستفهام قائماً. وكيف كان ذلك؟ فجاءت الإجابة في ثلاث آيات قصيرات مركزات: "وأرسل عليهم طيرا أبابيل 3 ترميهم بحجارة من سجيل 4 فجعلهم كعصف مأكول " 5.. وهكذا وصفت واقعة الفيل أبلغ وصف، واختتمت بنهاية محكمة أشد الإحكام. وروعة هذه القصة القرآنية ليست في جِدَّةِ موضوعها فهي قصة معروفة عند العرب متداولة بينهم، ولكن روعتها تكمن في القالب الجديد التي عرضت من خلالها وفي أسلوبها الموجز البليغ، فهي تتحدث عن واقعة عظيمة قدمت مختصرة في خمس آيات.
ونجد كذلك التنويع في المقدمات، فسورة الكهف ابتدأت بذكر ملخص كامل لوقائعها، ولكن هل أشبع هذا الملخص الرغبة في معرفة تفاصيل هذه القصة؟ والإجابة: كلا،.. بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " الكهف: 13}، فالقارئ والمستمع يتلهف لمعرفة سبب ذهاب الفتية إلى الكهف وما حدث لهم بعد ذلك.
وابتدأت سورة يوسف بالتشويق الذي بلغ أعلى درجات الإثارة، ففي مستهل القصة وصف الله - جلت قدرته - القصص القرآني بأحسن القصص الذي يخرج الناس من غفلتهم، ثم انتقلت للحديث عن الرؤيا التي رآها يوسف - عليه السلام - وهذا وحده كفيل بإثارة اهتمام القارئ والمستمع وشوقه لمعرفة تفسير تلك الرؤيا، ثم تحدثنا الآيات عن تحذير يعقوب - عليه السلام - لابنه من رواية تلك الرؤيا لإخوته. وبعد هذا الاستهلال الرائع للقصة تعود بنا الآيات إلى الماضي لتحدثنا عن تآمر إخوة يوسف عليه، ثم تتسلسل الآيات في رواية قصته كاملة منذ طفولته.
وهذا ينقلنا بدوره إلى الحديث عن المفاجآت في القصة القرآنية التي تتميز بتنوع الأساليب التي كانت تقدم من خلالها، فقد يكتم القرآن سر المفاجأة حتى تتكشف في نهاية القصة، وفي هذا تشويق للقارئ حتى يتم القصة ويعرف نهايتها كما في قصة موسى - عليه السلام - مع العبد الصالح. بينما في قصة ملكة سبأ كان السر معروفاً للقارئ في كيفية مجيء العرش إلى سليمان - عليه السلام - بينما هي لم تكن تعرف، والدليل على ذلك قولها عندما رأته (كأنه هو): لأنها لمست تشابهاً كبيراً بينه وبين قصرها، فسرد هذه الأحداث بهذه الطريقة فيه إثارة لاهتمام القارئ.
ويمتاز القرآن الكريم بالدقة في اختيار الكلمات التي تحمل دلالات عميقة، وتعبر عن أحداث كثيرة بأقل عدد من الكلمات كما في كلمة (تذودان) الواردة في قوله - تعالى -: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير" القصص: 23} فهذه الكلمة بينت أن الفتاتين كانتا تحبسان أغنامهما وتمنعانها من الاختلاط بأغنام الآخرين، حتى لا يدعي أحدهم أنها له، وهذا يعني أنهما كانتا تنتظران - لضعفهما - حتى يخف الزحام فتسقيان أغنامهما، وأن أغنامهما كانت تريد الذهاب إلى مورد الماء مع سائر الماشية فكانتا تمنعانها وهذه الكلمة ساهمت في تخيلنا للموقف وما فيه من حركة، والدوافع النفسية التي تدفعهما للتصرف بهذه الطريقة، كل ذلك لخصه القرآن الكريم في كلمة واحدة هي تذودان ولاشك أن هذه الكلمة تكشف عن نفسية هؤلاء القوم الذين كان يسيطر عليهم حب الذات، والحرص على مصالحهم الخاصة بهم دون الالتفات إلى حاجة الآخرين للماء، وعدم مراعاتهم لضعف هاتين الفتاتين وكبر سن والدهما، ولذلك لفت هذا المشهد انتباه موسى - عليه السلام - وأثار تعجبه، ولما عرف القصة سقى لهما، وهذا يدل على حسن خلقه.
ونجد الأمر نفسه في الآيات (24-32) من سورة عبس " فلينظر الإنسان إلى طعامه 24 أنا صببنا الماء صبا 25 ثم شققنا الأرض شقا 26 فأنبتنا فيها حبا 27 وعنبا وقضبا 28 وزيتونا ونخلا 29 وحدائق غلبا 30 وفاكهة وأبا 31 متاعا لكم ولأنعامكم 32 عبس: 24 - 32} حيث جمعت هذه الآيات في سرد رائع كل ما يمكن أن ينبت على وجه الأرض من مزروعات تفيد الإنسان، والدواب التي سخرها الله - سبحانه وتعالى - للإنسان، فكلمة (الحب) تشمل القمح والشعير والذرة، أما القضب فهو كل ما يقضب من النبات كالقثاء وسائر البقول، والأب كل ما تنبته الأرض من عشب سواء ما يأكله الناس كالحصيد أو ما تأكله الدواب. ودلالة العنب والزيتون والنخيل واضحة ومفهومة، أما الحدائق بما فيها من أشجار غليظة وغير غليظة، فالآيات السابقة تبين لنا كل ما يحتاجه الإنسان من طعام حياته وحياة دوابه، وكذلك الفاكهة على مختلف أنواعها وكذلك الراحة النفسية والتمتع بالجمال.
ومما يثبت أن القرآن الكريم يميل إلى اختيار الألفاظ القليلة ذات المعاني والدلالات الكثيرة، أننا نجد قصة قصيرة بليغة مركزة على قوم عاد في الآيات (18-20) من سورة القمر "كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر 18 إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر 19 تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر القمر: 18 - 20}، فهذه الآيات القصيرة تحدثنا عن تكذيب قوم عاد، والعذاب الذي حل بهم نتيجة لتكذيبهم والذي لم يبق على أحد جزاء وفاقا. وقد نستغرب احتجاج الملائكة بأن نسل آدم سيفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء وهذا الأمر ما زال في علم الغيب في ذلك الوقت عندما أخبرهم الله - سبحانه وتعالى - أنه سيجعل آدم خليفة له في الأرض، كما اتضح ذلك من قوله - تعالى -: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون البقرة: 30} ولعل في ذكرهم لسفك الدماء ما يتصل بصلة وشيجة بالدم المسفوك في قصة البقرة، ولذلك ذكرت هذه الجزئية من قصة آدم في هذه السورة فقط. وهذا ما تحقق بالفعل عندما قتل قابيل أخاه كما حدثتنا عن ذلك سورة المائدة.
وقد ورد اسم الفاعل (جاعل) بتنوين الضم في الآية السابقة ليدل على الاستقبال غير المنقطع مما يوحي بأن الذي سيجعله خليفة ليس فرداً وكفى (آدم) فقط وإنما هو ونسله لذلك لم يقل: (سأخلق) وإنما قال: (خالق) ومما يؤكد هذا التفسير أنه لم يقل: (خالق آدم) بل: (خالق بشراً) في قوله - تعالى -: " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون " الحجر: 28}. كذلك نلاحظ تنكير كلمة: (بشر) لتشمل كل كائن وليس كائناً واحداً محدداً، وعندما جعل الله - سبحانه وتعالى - خليفة في الأرض أيضاً لم يقل إني: (جاعل آدم خليفة) وإنما قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) في الآية من سورة البقرة الآنفة الذكر.
ويمتاز القصص القرآني بتنوع الصِّيَغ التي كان يقدم من خلالها الإنذار للأقوام التي تستحق العذاب، بعد استنفاد وسائل الإصلاح كلها، وقد حدثتنا سورة هود عن صيغ الإنذار التي وردت على لسان نوح وهود ولوط وصالح وشعيب، - عليهم السلام -، وعند قراءتنا لصيغ الإنذار نلاحظ المضمون نفسه ولكن الشكل الفني الذي قدم من خلاله كان يختلف باختلاف القوم، بحيث لا يدع مجالاً للشك بأن القرآن الكريم كلام الله، - سبحانه وتعالى -، ولهذا كان الإعجاز البلاغي هو مناط التحدي كما يتضح لنا كذلك أن الله - سبحانه وتعالى - ينصر أنبياءه والمؤمنين معهم وينجيهم، وينزل عقابه بمستحقيه.
وللإنذار أهمية بالغة في القصة القرآنية لأنه مرتبط بعنصر "العقدة" لهذا كان الإنذار الأخير في كل قصة قرآنية يشير إلى "الذروة" في تأزم الأحداث، والوصول إلى الذروة يعني قرب حدوث "الحل" الذي كان يأتي في القصص القرآني من خلال معجزة إلهية ترمي إلى إنزال الهلاك التام بالقوم المفسدين. ولهذا كان المشهد الأخير من كل قصة قرآنية يتميز بإنزال كارثة بالمكذبين الذين كانوا يستحقون العقوبة مثل: الطوفان أو الزلزال أو العاصفة المدمرة أو الصيحة، لإظهار أن القوة لله جميعاً، وتحذر مشركي مكة من ملاقاة المصير نفسه، مع الحرص على ربط طرق الإهلاك مع نوعية الذنب المرتكب من قبل المكذبين بالدين بقصد الاعتبار. وينتهي هذا المشهد بانتصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - والفئة المؤمنة من قومه، وفي ذلك رفع للروح المعنوية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وللدعاة من بعدهم.
ومن أوجه الاختلاف بين القصة الدينية والقصة الفنية، أن القصة القرآنية تشيع فيها التعليقات التي تلخص مغزى القصة، التي تسبق سرد أحداث القصة، أو تلحق السرد، أو تأتي خلاله لتفسر أسباب تلك الأحداث بما يبررها حتى يكون لها وقعها في النفوس بما يستخدم في التعقيب عليها من أساليب التذكير والوعظ والزجر، ومن الأمثلة على ذلك طريقة عرض قصة أهل الكهف إذ تلتقي بملخصها في ثلاث آيات ثم يأتي التفصيل. فالقصة القرآنية تحرص على إبراز المغزى في حين لا يجوز ذلك في القصة الفنية، والمحلل الأسلوبي لا يحتاج إلى تبرير مثل هذا المنهج الذي يتناسب مع غايات القرآن الكريم الدينية، فالقصة القرآنية قصة إيمان وهدفها تربية العقيدة في الوجدان الإنساني، والقرآن الكريم جاء لكل العقول والاتجاهات، وبعض الناس قد لا يستطيع استنتاج العبرة من القصة، فكان لابد من إرشاده إلى الغرض الذي تجسده بأسلوب يغلب عليه التبسيط أحياناً لتوضيح العبرة ليفهمها كل إنسان. ولكن هذا لا يعني أن القصة القرآنية تأخذ بالتقرير والمباشرة وإنما هي تهتم بالتصوير والتجسيم والاستحضار والإيحاء، فسورة "يوسف" من أولها إلى آخرها لم تقل شيئاً عن وسامة يوسف - عليه السلام -، لكننا نرى الوسامة الأخاذة في أعين النسوة اللائي عندما رأينه، قطعن أيديهن لفرط الذهول من وسامته. فحقيقة جمال ووسامة يوسف قدمت لنا مجسمة تكاد تنطق في قوله - تعالى -: فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " يوسف: 31} والتضعيف في الفعل (قَطَّعن) أسهم في إيضاح الموقف وتصويره بحيث يمكننا تخيل مشهد النسوة وهن يقمن بتقطيع أيديهن، فتشبيه يوسف بالملك الكريم يعني أن جماله فاق الوصف.
وتلفت النظر أيضاً ظاهرة أساليب التوكيد التي أكثر إخوة يوسف - عليه السلام - من استخدامها، فهم كانوا يتبعون قولهم بعبارة من مثل: (وإنا لناصحون) ودلالة على ذلك أنهم كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم أن نواياهم ليست سليمة، وأنهم موضع شك فيحاولون إبعاد الشبهة عن أنفسهم بأساليب التوكيد. ومن أسطع الأمثلة على ذلك ما قاله، - سبحانه وتعالى -، على لسان إخوة يوسف: " قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون يوسف: 14} فهاهم يلجأون إلى اللام المواطئة للقسم (لئن)، واللام الواقعة في (لخاسرون) والجملة المعترضة (ونحن عصبة) ليزيلوا ما في نفس أبيهم من خوف على يوسف، ولا تبقى له عِلَّه يتشبث بها. ولبث مزيد من الاطمئنان في نفس أبيهم نلاحظ الضمير الدال على الجمع (نحن - إنا) وجمع المذكر السالم (خاسرون)، ودلالة كلمة (عصبة) لبيان قوتهم ومقدرتهم على حمايته، وكان لدى الوالد إحساس بأنهم يدبرون مكروهاً لأخيهم، لذلك عبر أمامهم عن مخاوفه، لكنهم طمأنوه، بينما نجد الحديث عن الصبر والدعوة إليه وبيان فضله، وبث الشكوى والحزن إلى الله على لسان يعقوب - عليه السلام -، الذي كان بأمس الحاجة إليه ليستطيع مواجهة الموقف الصعب الذي وجد نفسه فيه.
ـــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1-كاظم الظواهري، بدائع الإضمار القصصي في القرآن الكريم.
2- محمد كامل حسين المحامي، القرآن والقصة الحديثة.
javanet :: المنتدى الاسلامي :: قسم المدائح :: إسلاميات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى